ما بعد أخناتون...

ما بعد أخناتون... توت عنخ آمون,

بموت «أخناتون» تلاشت ثورته الدينية، ومع عدم وجود وريثٍ قوي له استطاع كهنة «آمون» أن يستعيدوا سلطتهم، فمحوا جُلّ آثار تلك الثورة وأعادوا لـ«آمون» ما كان علية حيث لم يكن «سمنخكارع» ولا «توت عنخ آمون» بنفس قوة اخناتون فخضعوا للكهنة، هذا على الصعيد الديني لكن ماذا عن الصعيد العسكري الذي هو أكثر أهمية بطبيعة الحال؟

اعتلى «سمنخكارع» العرش عقب وفاة اخناتون فلم يستقر له الأمر، إذ تحالف ضده «نفرتيتي» زوجتى اخناتون و«آي» وزيره فما هي إلا سنوات قليلة وانقطع ذكر «سمنخكارع» من التاريخ فلم نعرف متى ولا كيف توفى! خلفه على عرش مصر «توت عنخ آمون» فلم يستتب له الأمر أكثر من سمنخكارع حيث لم يرض «آي» و«نفرتيتي» لأنفسهم بأدوار ثانوية في حكم البلاد، استمر النزاع بين ثلاثتهم على أشده إلى أن استقر في آخر الأمر إلى «آي».



آي:

ظهر «آي» لأول مرة في السرد التاريخي كعضو في محكمة «أخناتون» في عاصمته الجديدة «أخيتا تون»، ومن المثير للدهشة اللقب الذي حرص «آي» على تدوينه قبل اسمه وهو “والد الإله” وهو اللقب الذي يتخذه عادةً حمو الملك، على الرغم من عدم وجود وثائق تؤكد ما سبق،

إلا أن ذلك يمكن أن يفسر المكانة المرموقة التي حازها مع افتقاده للنسب العزيز حيث لم يُذكر أي تفاصيل عن والديه أو عن نشأته، ولكن ما يشكل أهمية أكبر لنا ليس هذا اللقب وإنما الوظيفة التي شغلها «آي» خلال عصر «أخناتون» وحتى وفاة «توت عنخ آمون» وهي (قائد الفرسان)! رأى «آي» أن «توت عنخ آمون» لن يصلح لحكم البلاد وأنه -آي- أحق بالحكم منه حيث كان هو الرجل الأول للدولة في تلك الفترة فهو وزير أخناتون الذي ساعده في ثورته وقائد فرسانه الذي حمى البلاد في ظل انشغال ملكها بقرص الشمس خاصته، انطلاقًا من تلك القناعات سعى «آي» لعرش مصر فلم يضْنَ بجهد ولم يتعفف عن جرم، فبالإضافة إلى تورطه -الذي ترجحه الدلائل- في اغتيال «توت»، قام أيضًا باغتيال آخر مهد له الطريق تمامًا للعرش.



بعد موت «توت عنخ آمون» وجدت أرملته «عنخ اسن آمون» نفسها على عرش مصر بلا حول ولا قوة مما جعلها تقدم على خطوة يراها المؤرخون غريبة نوعًا ما، حيث أرسلت برسالة لملك الحيثيين تطلب منه فيها أن يرسل إليها أحد أبنائه ليتزوجها ويكون ملك على مصر، جاء ذلك الطلب على هوى ملك الحيثيين حيث أن مصر التي أعيته بالحروب والمناوشات حتى ذلك الوقت تُقدَّم له الآن على طبق من ذهب! أرسل لها أحد أبنائه؛ لكن -ويا للعجب- لم يصل الأمير حيًا حيث تم اغتياله في طريقه إلى مصر.

وعلى الرغم من فارق العمر الكبير بينهما تزوج «آي» من أرملة «توت»، وبذلك يكون له الحق في اعتلاء عرش مصر، لم يطل ذلك الاستقرار الذي أعقب اعتلاء «آي» العرش فما هي إلا فترة قصيرة وتجرع من نفس الكأس الذي سقاها لأعدائه!

حور محب:

الظاهر أن «حور محب» كان من عامة الشعب ولا ينتسب إلى أسرة عريقة. وقد عاش في كنف إله مقاطعته المحلي المسمى «حور». ولم يكن «حور محب» مغمورًا في حياته أو ظهر فجاءة في هذا الوقت العصيب، بل كان فذًّا في كل عمل وُكِّل إليه أمره؛ فكان كاتب المجندين الموفق في عهد الملك«تحتمس الرابع»، ثم ارتفع في عهده أيضًا إلى مرتبة «مربٍّ قديرٍ لإحدى بناته»، ثم صعد إلى وظيفة «قائد لكتائب الفرسان»، ثم عهد إليه مولاه بمهمة خطيرة لا ينهض بأعبائها على الوجه الأكمل سواه، تلك هي محاربة كهنة «آمون» وانتزاع الرياسة الدينية لكهنة القطرين من أيديهم، وليس ذلك بالأمر الهيّن في هذا الوقت فهم أصحاب نفوذٍ كبير، وإليهم آلت السلطة المسيطرة في البلاد،

هذا بجانب أن إعلان الملك الحرب على كهنة «آمون» سابقة خطيرة لم يعتدها القوم ولم يألفوها من قبل، فإقدام الملك على ذلك يدل على أنه واثق تمام الوثوق من مقدرة ذلك القائد الذي عهد إليه بالأمر. وقد صدقت فِراسته، ولم يخيّب «حور محب» ظنه فانتصر فعلًا على هؤلاء القوم، وانتزع منهم تلك الوظيفةَ التي كان شاغلها يسيطر على المرافق الدينية والاقتصادية في كل المقاطعات، وهي وظيفة «رئيس الكهنة لكل آلهة القطرين»، وهنا ارتفعت منزلة «حور محب» في عين سيده فولّاه راضيًا هذه الوظيفةَ مكافأةً له على إخلاصه وصدق عزمه، وإن كان من رجال الجيش، وليس من كهنة الدين، على أن هذه الوظيفة لم تستطع أن تبقى طويلًا خارج حدود الكهنة، فقد اضطر «أمنحتب الثالث» أن ينزل عنها مرغمًا إلى الكهنة فرجعت إلى حوزتهم مرة ثانية إلى أن جاء «أخناتون» وانتزعها منهم إلى الأبد. وقد بقي «حور محب» -على ما يبدو- محتفظًا بوظيفة قائد الجيش في عهد أخناتون. والظاهر أنه لما أحدث «أخناتون» ذلك الانقلاب الديني غيَّر «حور محب» اسمه مسايرةً للجو الذي يعيش فيه؛ فسمَّى نفسه «آتون-محب» (يعني آتون في عيد)!



وقد زاد نفوذه، وامتد سلطانه في عهد الملك «توت عنخ آمون»، فقد كان وصيًّا على العرش، وقابضًا على معظم السلطة الحربية في البلاد. رجلٌ بهذه الصفات الفذّة لن يقنع -بالطبع- إلا بعرش مصر، تذكر الوثائق التاريخية قيام حور محب بثورة على «آي» -الرجل الذي رفعه بنفسه إلى أسمى مناصب الدولة، وبذلك اعتلى رجل جيشٍ آخر عرش مصر.

لم يكن «حور محب» رجل جيشٍ وحسب وإنما رجل دولةٍ بحقّ، فعند توليه الحكم استطاع بنبوغه السياسيّ وقوته العسكرية أن يعيد الاستقرار والسيادة لمصر مرةً أخرى، حيث لم يكتفي بإقامة منشآتٍ جديدة بل ركّز على إصلاحِ القوانين ومراقبة الموظفين بتعقب الظلم والقضاء عليه في مظانّه، واستطاع مجابهة الحيثيين الموتورين، وقمع المتمردين؛ فاستقرّ له بذلك حكم مصر وأعاد لمصر سيادتها