أول خليفة يموت عطشاً وبُخل أمه “قبيحة” أودى بحياته.

أول خليفة يموت عطشاً وبُخل أمه “قبيحة” أودى بحياته.

عندما سلَّم الخليفة العباسي المعتصم المناصب المهمة في الدولة والجيش للأتراك وفضَّلهم على العرب والفرس، لم يكن يعلم أن أولئك سيتحكمون في دولته من بعده فيعينون الخلفاء ويعزلونهم تبعاً لأهوائهم، والأهم من ذلك لم يكن يعلم أنهم سيقتلون عدداً من أولاده وأحفاده في سبيل التمسك بالسلطة، فقد راح ضحية تنافسهم على التحكم في أمور الدولة عدة خلفاء كان منهم المعتز بن المتوكل.



سنروي لكم قصة الخليفة العباسي الثالث عشر، المعتز بالله بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد، الذي شاءت أقداره أن يولد في وقت كانت فيه الخلافة العباسية في أضعف مراحلها، حيث كان كبار قادة الجيش والدولة من الأتراك يتحكمون في مقاليد الأمور.

لم تدُم خلافة المعتز أكثر من 4 سنوات، لم يحدث خلالها أي فتوحات أو معارك للمسلمين. وعلى الرغم من أنه كان نبيهاً فطناً كما قال ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية"، فإنه مع ذلك لم يمتلك ما يكفي من الحيلة للتفوق على الأتراك.

نشأ المعتز محباً للأدب واللغة والشعر والبلاغة، وقيل إنه كان بديع الحسن، فذكر أبو الحسن المسعودي في كتابه "التنبيه والإشراف" أن المعتز "أبيض الوجه أسود الشعر حسن العينين لم يرَ في الخلفاء مثله جمالاً".

المعتز يعتلي عرش الخلافة بعد أن قتل عمه

قبل اعتلاء المعتز عرش الخلافة العباسية، كان الخليفة هو عمه المستعين بالله الذي قتل من الأتراك ما قتل فراحوا يمكرون له، ولما شعر بمكرهم خاف منهم وترك سامراء (مركز تواجدهم) وقصد بغداد.

فأرسل له الأتراك يعتذرون منه ويسألونه العودة، لكن الخليفة أبى ذلك وامتنع، فتوجه الأتراك إلى السجن فأخرجوا المعتز بن المتوكل الذي كان محبوساً حينها بأمر من المستعين وعقدوا له البيعة وخلعوا المستعين.

في ذلك الوقت كان المعتز يبلغ من العمر 19 عاماً، وجهز جيشاً قوياً لمحاربة المستعين واستمر قتال العم وابن الأخ أشهراً غلت فيها الأسعار وعم البلاء على البلاد وكثر القتل والنهب، وانتهت الحروب بين الطرفين بأن خلع المستعين نفسه لكن ذلك لم يحمِه من بطش المعتز والأتراك من ورائه.



فأرسل المعتز إلى الأمير أحمد بن طولون، والي العباسيين على مصر، طالباً منه قتل المستعين، لكنه أبى وقال: والله لا أقتل أولاد الخلفاء. فأرسل المعتز حاجبه سعيد، فقتل المستعين.

خلع أخاه وسجنه

ولما تم الأمر للمعتز وتخلص من عمه إلى الأبد، قام بتعيين أخيه المؤيد ولياً لعهده ووالياً على الشام (وقد كان المؤيد أيضاً مسجوناً فيما مضى بأمر من المستعين) وعين أخاه الموفق طلحة وزيراً له. لكن الوفاق بين أبناء المتوكل لم يدُم طويلاً، فسرعان ما اختلف المعتز مع إخوته المؤيد والموفق، إذ تناهى إلى مسامع الخليفة أن إخوته يتآمرون ضده فقام بعزلهم من مناصبهم وحبسهم.

ولم يكتفِ المعتز بحبس إخوته بل أمر أيضاً بجلد أخيه المؤيد فمات متأثراً بجراحه بعد أيام.

الأتراك يتفننون في تعذيب المعتز ويقتلونه عطشاً

تمت عملية خلع المستعين ومبايعة المعتز بمساعدة قائدين من أبرز قادة الترك، هما بغا الشرابي وصالح بن وصيف، لكن نشب فيما بعد خلاف بين هذين القائدين اللذين راحا يتصارعان على السلطة.

بعد أن فطن لتعاظم قوة الأتراك، استغل المعتز هذا الخلاف فراح يناصر هذا على حساب ذاك بغية إضعاف الطرفين، وبدأ بتفريق القادة الأتراك من حوله والتحكم بشؤون الجيش وتقريب المغاربة والمصريين.



لكن كان ينقص المعتز القوة والمال فقد فرغ في عهده بيت مال المسلمين، وراح الجند الأتراك يطالبونه بأموالهم وأعطياتهم، وقالوا له: يا أمير المؤمنين أعطنا أرزاقنا نقتل صالح بن وصيف، وفكر المعتز بأنها فرصة لا تعوض للتخلص من هذا القائد القوي. ولما كان يعوزه المال اللازم لتنفيذ هذه المهمة لجأ إلى والدته أملاً في أن تعينه.

كانت والدته جارية رومية اسمها "قبيحة" ويقال إنها كانت من أجمل نساء عصرها، أما اسمها فهو من أسماء الأضداد الذي أطلق عليها خوفاً من الحسد، وقد شغفت قبيحة تلك قلب زوجها المتوكل فأغدق عليها الكثير من العطايا والأموال.

لكن قبيحة اتسمت بالبخل، ورفضت أن تعطي ولدها الأموال اللازمة لحل أزمته مع الأتراك، الذين أجمعوا على خلعه ووافقهم على ذلك صالح بن وصيف.

وحسبما روى الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه "تاريخ الخلفاء" فقد تفنن الأتراك في تعذيب المعتز، فجاؤوا داره وجروه من رجله، ثم ضربوه بالدبابيس و أقاموه في الشمس في يوم صائف و هم يلطمون وجهه و يقولون : اخلع نفسك ثم أحضروا القاضي و الشهود و خلعوه .

وأحضروا من بغداد إلى سامراء محمد بن الواثق و كان المعتز قد أبعده فبايعوه، وأخذوا المعتز بعد خلعه بـ 5 أيام فأدخلوه الحمام فاغتسل ثم عطش فمنعوا عنه الماء، ثم أخرجوه بعد أن تمكن العطش منه فسقوه ماء بثلج فمات ليكون أول خليفة يموت عطشاً.

نهاية أمه "قبيحة"

أما أمه "قبيحة" فقد خافت على نفسها بعد مقتل ابنها المعتز، وأعطت صالح بن وصيف الكثير من الأموال، منها كما قال السيوطي، ألف ألف دينار و300 ألف دينار وسفطاً فيه مكوك زمرد وسفطاً فيه لؤلؤ وياقوت أحمر وغير ذلك.



فلما رأى ابن الوصيف كل تلك الأموال التي بحوزتها قال: قبحها الله عرضت ابنها للقتل لأجل 50 ألف دينار وعندها هذا فنفاها إلى مكة.

ابن المعتز.. خليفة يوم وليلة

من الجدير بالذكر أن للمعتز ولداً اسمه عبد الله وكنيته أبو العباس، كان أديباً وشاعراً وهو مؤسس "علم البديع" الذي يعتبر أهم فرع من علوم البلاغة.

لكن عبد الله لم يكن أوفر حظاً من أبيه، فلما آلت إليه الخلافة، أطلق على نفسه لقب المرتضى بالله، لكنه لم يلبث بالخلافة إلا يوماً واحداً فقد قتله على الفور غلمان المقتدر بالله الذي تولى عرش العباسيين من بعده، وهكذا كان المعتز أو خليفة يموت عطشاً أما ابنه عبد الله فقد أطلق عليه لقب "خليفة يوم وليلة".