ملحمة “حيزية وسعيد”

ملحمة “حيزية وسعيد”

تمتلك الذاكرة الشعبية الجزائرية قصة حب حزينة، تُنافس في ألقها وديمومتها قصص روميو وجولييت وقيس وليلى وعنتر وعبلة. وفي الواقع لا يحتفي التاريخ سوى بأيقونات العشق الأكثر حزناً والأكثر مأساوية، وكأن المأساة وحدها مَن تخلّد نفسَها بنفسها على مرّ الدهور، أو وكأن الحب لا يحفل بسادته المتيّمين بقدر ما يحفل بضحاياه المثكولين، لعل ذلك ما حدا بالشاعر نزار قباني إلى الجهر بالقول:

هو جدول الأحزان في أعماقنا تنمو كروم حوله وغلال
هو هذه الأزمات تسحقنا فنموت نحن وتزهر الآمال

نحن أمام قصة مات فيها العشاق جميعاً، وبقيت حكايتهما أسطورة عابرة في مرارتها للأزمان.



في مدينة سيدي خالد مزاران ومعلمان بارزان، هما مسجد وضريح خالد بن سنان العبسي، ذلك الحنفي الذي تصفه روايات تاريخية متضاربة بأنه "النبي الذي أهمله قومه"، ومقبرة قبيلة الدواودة الهلالية التي تضم بين أجداثها رفات بطلي ملحمة، عاشقَيْن تحدَّيا شرف القبيلة، ولم يُهملها التاريخ للحظة واحدة، فهي انتقلت من واحات الصحراء وهضاب بازر سكرة، وتلال سيدي خالد إلى الشعر الشعبي الملحون، ثم الغناء الصحراوي، على شاشات التلفزيون الجزائري. وبين سطور كتّاب الروايات.

1/ قصة الحب التي انتصرت على شرف القبيلة

ولدت حيزية بوعكاز، ابنة أحمد بن الباي، في العام 1855 بالقرب من سيدي خالد، الواقعة بولاية بسكرة، جنوبي الجزائر، في حاضنة بدوية، وهي قبيلة الدواودة، التي دأبت على الترحال بين موطنها الأصلي ومنطقة بازر سكرة، نواحي مدينة العلمة، ولاية سطيف، كما هي عادات القبائل العربية التي تعيش على زمن دوّار ومتكرر ما بين رحلتي الشتاء والصيف، وبين تلك الرحلات السنوية هجراً لحرّ سيدي خالد على ضفاف الصحراء، وطلباً لأُنس التل في أيام القيظ الشديدة.

وما بين رحلة وأخرى وُلدت قصة حب طفولية بين حيزية وابن عمها سعيد، ذلك الذي رباه والدها أحمد بن الباي، ورعاه في يتمه، إكراماً له ولشقيقه الراحل، حتى صار فرداً من عائلته، لا بل شبه نجل تام، غير أنه لم يكن ليفطن بسبب عادات القوم أن نار الحب الخافتة ستنمو بين ابنته ومكفوله، حتى تكاد تحرق عليه خيمته الكبيرة، فقد كان سيد القوم بلا منازع، وينوي أن يزف ابنته لأكبر الفرسان الشجعان، ولأرفع أبناء العرش نبلاً ومجداً، وهو لم يختبر ذاك سوى وحيزية قرة عينه، فائقة الحسن والجمال، ستصبح في فترة الشباب بدراً، تتهاوى عند خيمته نجوم القبائل طلباً ليدها، لكنها كانت تتمنع في لطف، وتتنصل من العروض في دعة، ولما كان طلب أحد الأشراف قابلاً للإنجاز ظلت تمانع في إصرار، وتتقلب في حزن شفاف، أفسد عليها أيامها الحلوة وعواطفها الصافية، وحبيبها ابن عمها سعيد الذي تواعدت معه على تتويج حبهما العذري بالزواج المقدس يدور متوجساً بين الواحات والخيام، من أن تنتهي قصته تلك إلى سراب يحسبه الظمآن في واحة الحب ماء، حتى جاءه الفرج بعد ليالي الأرق وأيام الأشواق، وحيزية تقطع في إصرار عنيد تلك العقدة القبلية، رافضة الزواج من الخاطب الشريف، موغلة في كآبة لا حدَّ لها، حتى إن والدها خشي على حياتها، ليكتشف أن ربيبه الذي رباه على عينه هو سر مصيبته، وعنوان سعادتها، ورجل من مقربيه يفشي له السر الأعظم: "إن عيب الفولة في جنبها".

كتب القدر أمراً آخر لم يكن في كفّ شيخ القبيلة الشرس، إذ ستتزوج حيزية سعيداً لتؤوب الحياة البدوية لعاداتها القديمة، غير أن ذات القدر الذي يضرب كما عاصفة دون أن يلتفت لأحد غير آبهٍ بالجميع، سيختطف بالموت زوجته بعد أربعين ليلة، مشرداً إياه في رحلة تيهٍ بين الرمال والكثبان والقبور، باحثاً عن حبه المدفون تحت التراب.

عزوني يا ملاح في رايس البنات سكنت تحت اللحود ناري مقدية

2/ ابن قيطون الشاعر الذي أنقذ القصة من الموت



ماتت حيزية في ربيعها الثالث والعشرين، العام 1878، ودفنت على بعد أمتار من ضريح سيدي خالد، أما سعيد فقد أسلم لخريف العمر في ريعان الشباب، فهام على وجهه بين الوديان والكثبان، معيداً قصص حب مأساوية غابرة، بيد أنه وفي لحظة صفاء نادر من جنونه الطارئ، إذ كان يخر صريعاً فاقداً للوعي تارة، راكضاً نحو قبرها تارة أخرى، سيقرر تخليد تلك القصة غير المكتملة في كلمات عجز عن نظمها، والقدر المتلاعب بالبشر والأحاسيس بين صفحتي القهر والرحمة سيُشفق عليه، واضعاً في طريقه الشاعر الكبير محمد ابن قيطون، الذي أنقذ قصتهما الحزينة من طي النسيان، سيموت سعيد لاحقاً ويُدفن في مكانٍ قَصِي عنها، لكن القصيدة ستُخلَّد عابرةً للأوطان والأزمان، بعبارات غزلية رفيعة لا تخلو من لسعات حسية على غرار:

خدك ورد الصباح وقرنفل وضـّاح الدم عليـــــه ساح وقت الصحويـا
لفم مثل عــــاج المضحـــــك لعـاج ريقك سـيُ النعاج عسله الشهايــا
شوف الرقبة خيار من طلعت جمـار جعبـــــة بلار والعواقيد ذهبيــا
صدرك مثل الرخـام فيه اثنين توأم من تفـــاح السقام مسوه يديـا

حققت قصيدة "عزوني يا ملاح في رايس البنات" تخليداً للشاعر الذي لم يكتب غيرها، وانتصاراً لا حدّ له على الموت، وهي تروي في أسلوب عذب رقراق تلك الأسطورة الحقيقية، ثم بلغت منذ الثلث الأول من القرن العشرين درجة الأغاني الكلاسيكية الخالدة، المصنفة في خزانة التراث الصحراوي الجزائري، فرددها على نوتات "الياي ياي" -وهو الطبع الموسيقي المعروفة به- كبار الفنانين الجزائريين، مثل خليفي أحمد والبار عمر، وعبدالحميد عبابسة، والد الفنانة المعروفة فلة عبابسة، ثم أعادها المطرب الجزائري الكبير رابح درياسة، ولم يتوقف بعدُ فنانون صاعدون من الصدح بها في مختلف المسارح والميكروفونات.

3/ يوم بكى الشاعر الفلسطيني حبيبته "جفرا" عند قبر حيزية

ملحمة “حيزية وسعيد”
الشاعر الفلسطيني عزالدين المناصرة

لمّا ظن الجميع أن تلك القصة التي أنتجها المخرج محمد حازورلي في فيلم تلفزيوني مطول، العام 1976 قد استهلكت دورتها الكاملة، زار الشاعر الفلسطيني عزالدين المناصرة الذي عاش بقسنطينة بين 1983 و1993، مدينة بسكرة للمشاركة في المهرجان الشعري المعروف محمد العيد آل خليفة، غير أنه طلب التعريج على مدينة سيدي خالد، لأسباب لم تتضح سوى وهو جاثم عند قبر حيزية قارئاً على روحها فاتحة الكتاب، ثم إنه بكى بكاء مراً فبلّلت دموعه شاهد القبر، لقد تقاطع ألم الفراق العنيف لملحمة حيزية مع قصته الشخصية، وهو لم يكن غير سعيد مكرر، إذ تذكّر حبيبته "جفرا" التي خطفتها منه قنبلة إسرائيلية ساقطة من سماء بيروت سنة 1976، وفي غضون أسبوع فقط سينشر الرجل الذي غنى الفنان مارسيل خليفة عدداً من قصائده، قصيدة أخرى عن حيزية في تناصٍّ عجيب مع نص ابن قيطون، سمّاها "حيزية عاشقة من رذاذ الواحات"، مانحاً إياها سرديةً عصريةً عبر الشعر العربي الحديث، ناقلاً لتلك الأسطورة الحقيقية من الطابع المحلي إلى البعد العالمي، سابغاً عليها حياة أخرى ظلت مقاومة للموت والنسيان.

نهاية القصة الغامضة كمادة لحفريات روائية جديدة

لم تمنع هذه الرواية الراجحة من نشوء روايات شاذة عن النص الأصلي، تجزم كلها أن القصة واقعية، غير أن ثمة تفاصيل يقيم فيها الشيطان، تكسو الحكاية طابعاً أسطورياً ككل المرويات الشعبية، خاصة ما تعلق بالوفاة المفاجئة لحيزية، فثمة روايات تُشكك في وجود سعيد، مؤكدة أن العاشق ليس غير الشاعر ابن قيطون، الذي مارس التورية على شخصيته لدواع قبلية بحتة، وخضوعاً لأعراف الضمير الجمعي المهيمن على المجتمعات والإثنيات القبلية، ولعل أكثر المذاهب ألما تلك التي أشارت أن والد حيزية رفض رفضاً قاطعاً زواج سعيد من حيزية، وقام بنفيه من القبيلة إلى خلاء الصحراء، وإزاء ذلك قررت العاشقة اللحاق به متنكرة في برنس رجالي، وعندما اقتربت من خيمته ظنّ الطريد أنه موفد جاء لقتله، فأطلق عياراً عليها، مردياً إياها قتيلة دون أن يعرف، قبل أن يُصعق بأنه قتل حبيبته، ليعيش بعدها تحت تأنيب الضمير حياة المجنون الذي قتل حبه وأجهز على ذاته.



شكلت هذه الحفريات الجديدة على هامش الرواية الأصلية مادة جديدة للباحثين والباحثات في مجال القصص الشعبية والتراث المحكي والمكتوب، فالروائي الكبير واسيني الأعرج يعكف منذ فترة على تأليف رواية مراجعة لملحمة حيزية، بالاعتماد على "المسكوت عنه" و"ما لا يذكره الرواة"، تماماً مثلما فعل في رواية "ليالي إيزيس كوبيا"، التي روى فيها حقائق غير معروفة عن الكاتبة مي زيادة وعزلتها في المشفى العقلي، الذي أدخلها فيه زوجها طمعاً في ممتلكاتها، ثم تخلى رفاقها الكتاب عنها طوال محنتها الزوجية والنفسية.

واللافت أنه وبعد انقضاء قرنين من الزمن عن تلك القصة الحزينة، لا تزال أميرة الصحراء حيزية جاثمة على عرش قصص الحب، كأعظم قصة حب جزائرية، لا بل إنها رمز المرأة العاشقة المنتصرة لأنوثتها، متوّجة الحب العفيف سلطاناً أبدياً فوق العادات والتقاليد والأعراف والجاه والمال، حتى لو كان ثمن "عنادها" ذاك هو "حياتها"، وفقاً لما تشي به روايات أخرى.