«ريا وسكينة» العصر المملوكى. حكاية «غازية والعجوز».

«ريا وسكينة» العصر المملوكى. حكاية «غازية والعجوز».

بعد أربعة أعوام من تولى الظاهر بيبرس سلطنة مصر، وبالتحديد في سنة 662هـ ارتفعت الأسعار وعمَّ الغلاء بالبلاد، واشتدت الأحوال على الناس حتى أكلوا ورق اللفت والكرنب ونَحوه، وخرجوا إلى الريف فأكلوا عروق الفول الأخضر – كما ذكر المقريزي في كتابه"السلوك لمعرفة دول الملوك"، وبلغ سعر أردب القمح مائة درهم والشعير سبعين درهمًا، ودفع هذا الغلاء الشديد الملك الظاهر بيبرس إلى الأمر بحصر عدد الفقراء وجمعهم تحت القلعة وتوزيعهم على الأغنياء والأمراء وإلزامهم بإطعامهم، كما وزع بيبرس من شونة القمح على الزوايا والأربطة، ورتب للفقراء كل يوم مائة إردب مخبوزة تُفَرَّق بجامع ابن طولون، حتى تحسنت أحوال الناس من جراء ذلك - كما ذكر ابن تغرى بردي في "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة وعلى الرغم مما قدمه الظاهر بيبرس للحد من الجوع والفقر الذي عمَّ البلاد، فإن ذلك لم يمنع من وقوع الجرائم وحوادث الاعتداء والسرقة والقتل وغيرها، والتي دومًا ما تكون نتاجًا لأوقات الشدة والغلاء وكثرة الجوع والفقر.



انه من الغريب أن تلك السنة تحديدًا اشتهرت قصة "غازية والعجوز"، والتي تشبه قصتهما قصة ريا وسكينة، وهى الأشهر لقرب وقوعها في القرن الماضي وقد أورد شهاب النويري في موسوعته "نهاية الأرب في فنون الأدب"، والمقريزي في "السلوك " قصة "غازية" التي اشتهرت باسم "غازية الخنَّاقة"، وقد جاء مدلول لفظ "الخنَّاقة" نتيجة لما كانت تقوم به من خنق الضحايا وقتلهم، أما اسم "غازية" فمن المحتمل أن الرواية الشعبية قد أطلقت عليها هذا الاسم؛ نظرًا لشكلها الذي يوحى بأنها كانت راقصة أو ما شابه ذلك لأن الروايات أوضحت أنها كانت تتزين بصورة، لافتة للنظر وهذا ما كان يتنافى مع الشكل العام للنساء في ذلك العصر.

وتبدأ قصة " غازية " بتعدد البلاغات لوالى القاهرة بتغيب عدد من الناس واختفائهم ، وقد استمرت تلك البلاغات لشهور متتالية دون أن يتوصل الوالي إلى الجاني أو السر وراء حالات الاختفاء حتى يأس الناس من ذلك وتسرب القلق إلى نفوس الأهالي.

«ريا وسكينة» العصر المملوكى. حكاية «غازية والعجوز».

وفى أحد الأيام فوجئ الناس بالقرب من خليج القاهرة بوجود جثث كثيرة تطفو على الماء، ومما زاد الوضع غموضًا العثور على جثث بعض المفقودين وعدم اكتشاف القاتل وعدم العثور على بقية المفقودين، وكانت المفاجأة وبداية الخيط الذي أوصل الوالي إلى الجناة عندما جاءت خادمة تشكو من غياب سيدتها "الماشطة"، وأخبرت الوالي أن سيدة عجوز قد حضرت إلى بيت سيدتها "الماشطة " تطلب منها إحضار ما لديها من قماش ومصاغ لعروسهم ووعدتها بدفع ما تريده من مال نظير ذلك، وأخبرت الخادمة الوالي أنها ذهبت برفقة سيدتها إلى بيت العروس وتركتها هناك، وعندما ذهبت الخادمة صباحًا لإحضار سيدتها أنكر أصحاب البيت أنها عندهم أو أنهم قد رأوها من الأساس، وليصبح هذا البلاغ خيطًا لوالى القاهرة لاكتشاف الفاعل لحوادث الاختطاف التي أزعجت الأهالي، فقام بالهجوم على البيت المقصود وقبض على "غازية والعجوز" وبالترهيب والتهديد اعترفتا بقتل الماشطة.

وبالتخويف والوعيد اعترفتا على رجلين آخرين كانا يشاركانهما في القتل، وجاءت الفرصة للقبض على أحد الرجلين وتأكيد اشتراكه الفعلي في الجرائم عندما قَدِمَ هذا الرجل لاستطلاع أمر "غازية والعجوز"، وهما رهن الاعتقال فألقى القبض عليه واعترف على رفيقه وعلى رجل آخر كان يعمل في "فرن طوب"، وكان يشاركهم الجرائم بحرق القتلى في "قماين الطوب" لإخفاء معالم الجريمة.

وقد اكتشف الوالي أن "غازية والعجوز" كانتا توقعان بالشباب عن طريق وقوف "غازية" في الطريق بعدما تتجمل بأجمل ثيابها وتتحلى بأحلى حُليها حتى تميل قلوب الشباب وتجذبهم بجمالها وتسحرهم بدلالها وتخدعهم بمكرها، وعندما تجد العجوز أن أحد الشباب قد مال إلى "غازية " تقول له : "هذه لا يمكنها أن تجتمع بأحد إلا في منزلها خوفًا على نفسها"، وعندما يذهب معهما من أراد "غازية " يكون في انتظارهم رجلان يتوليان قتله وسلب ما عليه من ثياب وسرقة ما معه من أموال.



وإمعانًا في التستر والخداع على ما ترتكبانه من جرائم فقد كانتا تتنقلان من مكان إلى آخر زيادة في التمويه والتخفي، ويؤكد هانى مهنى طة ، أن القصة تتشابه مع ما فعلته " ريا وسكينة " في القرن الماضي ، واستقر بــ "غازية والعجوز" المقام خارج باب الشعرية على الخليج في البيت الذي ألقى القبض عليهما فيه بعد مقتل الماشطة.

وبعرض أركان الجريمة كاملة على السلطان الملك الظاهر بيبرس أمر بتسمير الخمسة، فسُمِروا تحت القلعة ، وبشفاعة بعض الأمراء تم إطلاق المرأة وفُكت المسامير فماتت بعد أيام، أما الدار التي كانت مسرحًا للجرائم المتعددة فقد هدمها الناس ليبنوا بدلاً منها مسجدًا – ذكره المقريزي بمسجد الخناقة – وأثناء حفر المنزل لوضع أساس المسجد وجد الكثير من جثث القتلى الذين أوقعهم حظهم العاثر وضعف نفوسهم في طريق "غازية الخناقة" وما أكثر ضعاف النفوس الذين يأخذهم ضعفهم إلى نهاياتهم المحتومة.