عن استخدام البريد الالكتروني فقط بالعمل



في أغلب الأحيان التي يتواصل معي فيها عميل جديد، ثم يطلب وسيلة تواصل مباشرة للنقاش، أعتذر منه، وأذكر له أن وسيلة التواصل الوحيدة التي أعتمدها هي البريد الاكتروني.. للبعض أو الغالبية هذا الأمر مناسب أو يتفهمه على الأقل، ولجزء آخر منهم غريب، وربما مدهش !

ونعم أعرف أن وسائل تواصل كـ الواتس اب، أصبحت لغة العصر وقد أبدو رجعياً ذو فكر متحجر، وأعرف أن جزءً كبيراً ممن سيقرأ التدوينة سيستغرب الأمر أو لن يعجب به، وسيجد رداً بسيطاً سريعاً على كل نقطة سأذكرها بالأسفل،

والحقيقة أنني لا أنكر استخدامه في بعض الأحيان الخاصة جداً وخصوصاً بالتسجيلات الصوتية، لكن وبكل بساطة القاعدة الافتراضية هي أنني لا أستخدمه للعمل الفعلي أبداً، وللتذكير أتحدث هنا من منظور مجال عملنا والاختصاصات القريبة منه، ولا أتحدث عن موظفي الدعم الفني أو الشركات التي أصبح عملها قائم ومرتبط على التواصل المباشر والفوري،

وفي هذه التدوينة سأوضح أسباب سريعة لذلك، “وهي وكالعادة من تجربتي ووفقاً لقناعتي ورأيي الشخصي” لذا لست مضطراً أبداً للاتفاق معي فيها،

وسيلة مباشرة.. للتشتيت.



وسائل التواصل المباشرة تخلق عندي حالة غريبة من الضياع والضغط، ورغم أنني أحاول أغلب الاحيان أن لا أستلم عملاء كثر في وقت واحد أو أدخل نفسي في دوامة الفوضى سواء بوسيلة مباشرة أو لا، لكن لنفرض أنني أعمل على مشروعين لعميلين مختلفين، أحدهما يستفسر عن المستجدات مثلاً، والآخر يقترح فكرة معينة، ثم يتواصل معي صديق أو قريب، يتبعه عميل سابق أو حتى محتمل يحتاج لاستفسار أو سؤال،

وجميعهم على أكثر من وسيلة تواصل أو حتى على نفس الوسيلة و.. و.. وبالوقت نفسه ..، الحقيقة أن هذا السيناريو بالنسبة لي يصلح لفلم رعب، ولا يمكنني الاستمرار بتخيله أو التفكير فيه كروتين طبيعي أو أمر بسيط ومعتاد،

متواجد.. الآن ؟

البريد الالكتروني لا يترك شعور لدى الشخص بالحاجة الى الرد الفوري والمباشر، عكس الوسائل المباشرة تماماً، والتي من اسمها تعرف أن المقصود منها.. الآن، ومشكلتي هنا هي بكلمة “الآن” .. فهل عبارة “هل أنت معي .. ألو .. بانتظارك أخ محمد .. بانتظار الرد .. وغيرها” غريبة عليك ؟

هذا الأمر قلما تجده في البريد الا عندما تكون الحالة مستعجلة فعلاً، بل يمكنك وبكل بساطة أن لا تفتح بريدك الا عندما تكون متاحاً للرد والتعامل معه، ولايوجد أي داعٍ لأن تتوقف عن طعامك وماتقوم به للرد،

ونعم قد تقول لي أنا أحدد لعملائي ساعات معينة للدوام والعمل وخارجها أنا غير متاح، وسأقول لك أنا أكتب هذه التدوينة على سطح القمر !



دائماً Available

وسائل التواصل المباشرة، تشعر عميلك بوجودك الدائم من الصباح لمنتصف الليل، وبشكل أو بآخر وبارادتك أو لا، أنت قمت بخلط حياتك الخاصة مع حياتك العملية، فامساكك لهاتفك ووجودك online لأي سبب كان .. يعني جاهزيتك للعمل أو الردود والاستفسارات، فالمهم أنك موجود،

ثم لو أنك اختفيت بعد ارسال النص أو أردت التمرد أكثر وأخفيت الحالة كلها أو وضعتها busy ستظهر بمظهر المتلصص الذي يحاول الهرب والمراوغة في كل ظهورٍ لك، وهو ضغط نفسي اضافي لكل ماذكرته،

عملنا يحتاج لتركيز

كما ذكرت بالبداية ما أكتبه هنا لا يمثل الحالة العامة ولا يشمل جميع المهن والأعمال .. أتحدث عن عملنا ومجاله الذي يحتاج لتركيز وراحة نفسية .. والتواصل المباشر نقيض ذلك تماماً، فبعيداً عن المقاطعات الأخرى والتي ربما ستتمكن من تجاهلها،

فهل يمكنك تجاهل ذلك الجزء الذي يتم حجزه من دماغك عند قراءتك لرسائل كـ “مالذي تقصده بهذا الشكل، ما أخبار عملنا، أو لم أفهم المقصود بـ” وغيرها ؟ سيبدأ عقلك حتماً بصياغة الرد وانتقاء الكلمات، “عقلي على الأقل يفعل ذلك دائماً”،



ثم ونظراً لاختلاف طبائع الاشخاص وعاداتهم بعض الردود تكون غير مريحة وممتعة، ولن تستطيع بعد قراءتها أن تكمل حياتك بنفس السعادة التي كانت قبلها،

الوقت الضائع

للوهلة الأولى ستظن العكس .. قد تظن أن الوسائل المباشرة سريعة فسترد بكلمة واحدة “نعم، موافق، لا” ربما هذا الأمر صحيح بالأفلام، وكما اعتدنا بالصورة النمطية للهاتف، “عندما كان أحد الشخصيات يقول كلمة ويغلق السماعة”، وهو المشهد الذي لم استطع تنفيذه بحياتي كلها،

البريد الاكتروني يجبرك على الاختصار، على انتقاء الكلمات على ايصال ماتريده بأفضل صورة، الواتس اب وغيره يجعل الأمر مطاطياً وطويلاً فايصال فكرة أو اضافة أو توضيح في البريد الاكتروني تأخذ ربما أربع أو خمس أسطر “أو حتى عشرة” وسيأخذ وقت قراءتها وبتركيز تام دقيقتين ثلاثة وربما مع الإعادة حتى، لكن في الواتس اب قد تصل مدة النقاش والأخذ والرد على نفس الفكرة عشر دقائق.. ساعة.. خمس ساعات.. ،

وبعيداً عن ذلك، فحتى عند رغبتك بالعمل الفعلي بعدها بمدة، عليك العودة للكتابات وتواريخها والبدء بتقصي الحقائق وتحليلها و اعادة سماع مقاطع صوتية متفرقة وقد تقوم بإعادة تلخيص هذه المقاطع والمتفرقات كتابياً وترتيبها، وهو ما ينقلني للفقرة التالية ..

البريد يعني الأرشفة والترتيب

مفهوم الواتس اب والتواصل المباشر يعني : مكالمات + رسائل كتابية + رسائل صوتية + فيديوهات + صور + رسائل صباح الخير وملفات متفرقة وأفكار مقسمة و مجزئة ومرسلة بأكثر من مكان،

أما البريد الإلكتروني فهو وسط واحد، بسيط، محترم ومرتب، يجعلك تتنقل بين الأفكار والرسائل بطريقة عبقرية هادئة، هذا ماعدا إمكانية العودة لأي رسالة أو تعديل وفهمه دون تشتيت وكلام لا معنى له بالعمل أحيانا،

بل وأحياناً تحتاج للتفكير

تكمن المشكلة بصيغة وسيلة التواصل “المباشرة”، بأنها مباشرة وآنية وقلما تجد أن الطرف الثاني غير متمسك بفكرة الرد الآن، فأحياناً بعض الأسئلة والمفاجآت تحتاج لتفكير، صياغة، تركيز وهدوء بالرد .. بل وبعضها يحتاج الى sleep on it، ووسائل التواصل المباشرة عكس كل ذلك تماماً،



ثم أنني وبالوقت نفسه لا أعتقد أن الطرف الثاني يأخذ حقه والتركيز الكامل دائماً بالردود، ففي حال لم تكن بمزاج ومكان مناسب للرد، أو تتحدث مع طرف آخر بالوقت نفسه، ستصبح المحادثات بينكم حرب اسكات وانهاء سريع للنقاشات، للعودة الى الحياة الطبيعية.

بالنهاية..

نعم ورغم أنها تدوينة من وجهة نظر شخصية، الا أنها مبنية على تجربة “والبعض ممن يتفق معي يمسح دموعه الآن”، ومن يعرفني يعرف مدى تمسكي بالبريد واستخدامه كأساس في العمل، وبالتأكيد كما ذكرت بالبداية لدي حالات خاصة وعملاء أقرب للأصدقاء أستخدم معهم التواصل المباشر، لكن الخلاصة أنني نظمت عملي من سنوات بناء على هذه القاعدة، والأمور معي ممتازة بذلك ومازلت محافظاً على لياقتي الذهنية كما أظن،

ونعم قد لا يقنعك كلامي وهي ليست غايتي بكل تأكيد، وقد لا تتمكن من التمسك بالبريد أو تغيير أسلوب عملك بشكل مفاجئ بناء عليه، بل وقد تكون مضطراً لاستخدام وسائل التواصل المباشر للعديد من الأسباب، أو أنك قد تخسر عميلك لو تمسكت بأسلوب معين فقط، وهذا الأمر أفهمه الا أنني أنصحك على الأقل بتنظيم أسلوب محادثاتك قدر استطاعتك، والغاية ليست التحكم بعميلك أو تغيير أفكاره، الغاية أن تستمر بعملك بطريقة مريحة وهادئة .. بما يصب بالنهاية بمصلحة عميلك وعمله.