دولة التعليمات الشفاهيّة.. من بن علي إلى قيس سعيّد..!!!

دولة التعليمات الشفاهيّة.. من بن علي إلى قيس سعيّد..!!!

على طريقة دولة بن علي.. يدير قيس سعيّد تونس الآن بالتعليمات الشفاهيّة.. بتعمّد أن لا يترك أثرا مكتوبا.. وهو ما يدلّ على أنّ رئيس الجمهورية يدرك أنّه يسيء تطبيق القانون ويخشى محاسبته لاحقا.. فيحرص على عدم ترك أثر أو دليل..!!!

في عهد بن علي كانت القرارات تنفّذ.. والأحكام القضائية تصدر.. والرخص تمنح أو تسحب.. والاعتقالات ومنع السفر والطرد من العمل ومحاصرة مكاتب ومنازل المعارضين.. كلّها تتمّ بتعليمات شفاهيّة وبلا أيّ ورقة مكتوبة..



كان الجميع في السلطة وفي أعلى مراكز القرار يعلمون ذلك في عهد بن علي..

بل أنّك أحيانا تقدّم مطلبا أو عريضة في وزارة أو إدارة.. أو في وزارة الداخلية خصوصا.. فيمتنعون عن مدّك بوصل في استلام المطلب ("ديشارج").. حتّى لا يمكنك إثبات تقديم الطلب لاحقا.. أو استعمال الوصل في إجراءات تقاضي لدى المحاكم.. أو نشره لدى الإعلام داخل أو خارج تونس..

في القضايا التي فتحت بعد الثورة عن التجاوزات في عهد بن علي.. اتّضح بأنّ تلك الممارسة كانت منتشرة على نطاق واسع.. وأنّ كامل الدولة كانت تدار فعليّا بالتعليمات الشفاهيّة..!!

وأقرّ وزراء السابع من نوفمبر وكبار المديرين في الوزارات والإدارات ومسؤوليين أمنيّين وقضاة وغيرهم.. بأنّهم قاموا بأعمال وقرارات وإجراءات.. بمجرّد تعليمات شفاهية من الرئيس بن علي نفسه أو من مستشاريه بالقصر.. أو من الوزراء ومسؤولين كبار آخرين..

وكانت التعليمات الشفاهيّة تأتي أحيانا مباشرة.. وأحيانا عبر الهاتف لا غير..!!!



أذكر أنّ أحد ضبّاط الأمن أخبرني منذ سنوات بأنّ أفضل ما حصل بعد الثورة.. هو أنّ رؤسائهم في العمل عندما يوجّهون لهم تعليمات شفاهيّة قد يكون فيها تجاوز للقانون أو انحراف بالسلطة أو قد تسبّب مشاكل.. فأنّهم أصبحوا لا يخافون من أن يطلبوا منهم مدّهم بتعليمات كتابيّة واضحة لتنفيذها.. وكان ذلك يعني ضمنيّا تحميل الضابط الأعلى أو المسؤول الأمني الكبير الذي يصدر التعليمات مسؤوليّتها كاملة.. وهو ما يؤدّي غالبا إلى امتناع رؤسائهم في العمل عن كتابتها وتوجيهها رسميّا.. وبالتالي تراجعهم عنها.. لتجنّبهم ترك أثر مكتوب قد يكون حجّة ضدّهم لاحقا.. وسببا لملاحقتهم إداريّا أو قضائيّا.. وهو ما أدّى عمليّا إلى تراجع عمليات تجاوز القانون بنسبة معيّنة..

ذلك أنّ من يصدر التعليمات الشفاهيّة من وراء الستار ودون مكتوب رسميّ.. سيشعر في حال وقوع مشكلة أو شكاية أو قضيّة أو محاسبة أو محاكمة.. أنّه محميّ وأنّه لا دليل ضدّه.. وسيعطي ذلك للمسؤولا شعورا بالأمان وضمانا للتهرّب من تحمّل المسؤوليّة..

وطبعا مع إدراك أيّ مسؤول أنّه سيكون خارج المحاسبة لاستحالة إثبات خرقه للقانون لعدم وجود دليل ماديّ ثابت.. فإنّ ذلك سيشجّعه آليّا على عدم التقيّد بالحدود.. وعلى ارتكاب التجاوزات والحماقات والأعمال التعسفيّة خارج القانون..!!

اليوم أيضا.. فإنّ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد الذي يصرّ بأنّه رجل وأستاذ قانون.. وأنّه متمسّك بتطبيق القانون.. ويعمل "بما يرضي الله".. يدير بدوره شؤون الدولة هو وفريق عمله بالتعليمات الشفاهيّة.. الصادرة إمّا عنه شخصيّا أو عن مستشاريه أو عن المسؤولين العاملين تحت إمرته المباشرة..



وتتواتر الأخبار والشهادات هذه الأيّام عن قرارات بمنع السفر والوضع تحت الإقامة الجبريّة وتقنين بعض الأنشطة الاعلاميّة في التلفزة الرسميّة.. وتغيير بعض المسؤولين بجهات مختلفة.. وغيره ممّا يحدث في الظاهر وفي ما هو غير ظاهر.. تصدر كلّها بتعليمات شفاهيّة "من القصر" بطريقة مباشرة أو عبر وسطاء.. دون أيّ ورقة أو مكتوب رسميّ..!!

ولا شكّ أنّ ذلك يشجّع على خرق القانون وارتكاب التجاوزات..

للأستاذ عبد اللّطيف درباله ✍️