في مثل هذا اليوم 25 رمضان... حاكم شهيد وعالم فقيد..

في مثل هذا  اليوم 25 رمضان... حاكم  شهيد وعالم فقيد..

عندما سمع الشّاب سعيد بتصريح وزير المستعمرات البريطاني غلادستون في مجلس العموم البريطاني الذي قال فيه أمام النوّاب: "ما دام القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم، لذلك فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به"، عندها قال سعيد النّورسي عبارته المشهورة " لأبرهنّن للعالم بأنّ القرآن شمس معنويّة لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها.".



بعد أن حفظ القرآن عكف النّورسي على دراسة الرياضيّات وعلم الفلك والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا والفلسفة والتّاريخ ووضع فيها بعض المؤلّفات، ثمّ ارتحل عام 1907م إلى إسطنبول وقدّم مشروعًا إلى السّلطان عبد الحميد الثّاني لإنشاء جامعة إسلاميّة أطلق عليها اسم "مدرسة الزّهراء" تنهض بمهمّة نشر حقائق الإسلام وتدمج فيها الدراسة الدينيّة مع العلوم الكونيّة الحديثة، وعرّف الحاجة إلى مثل تلك الجامعة بقوله " ضياء القلب هو العلوم الدينيّة ونور العقل هو العلوم الحديثة فبامتزاجهما تتجلى الحقيقة فتتربّى همّة الطّالب وتعلو بكلا الجناحين وبافتراقهما يتولّد التعصّب في الأولى والحيل والشّبهات في الثانية". بعدها رحل سعيد إلى الشّام وخطب في الجامع الأمويّ بدمشق في الآلاف من المصلّين خطبة حفظها لنا الزّمن واشتهرت في التراث "بالخطبة الشاميّة ". ولقد كانت تلك الخطبة برنامجًا سياسيًّا واجتماعيًّا متكاملاً للأمّة الإسلاميّة.

ثمّ جاء دور الجهاد باندلاع الحرب العالميّة الأولى، شكّل النّورسي فرقاً فدائيّة من طلّابه وخاض معارك كبيرة على جبهة القفقاس أين جرح في الاشتباكات مع الرّوس وأسر في عام 1334 هـ وحمل شبه ميّت إلى سيبيريا وظلّ هناك لسنتين وأربعة أشهر، ودبّت في أوصاله الحياة من جديد بعد أن ظنّ رفاقه أنّه انتهى.

عاد إلى بلاده في 19 رمضان 1336هـ واستقبل استقبالاً رائعا من قِبل الخليفة وشيخ الإسلام والقائد العامّ وطلبة العلوم الشرعيّة ومنح وسام الحرب. وفي دار الحكمة الإسلاميّة المخصّصة لكبار العلماء كتب النّورسي أغلب مؤلّفاته باللغة العربيّة؟ ثمّ وفي العام 1924 م إثر سقوط الخلافة اختلف النّورسي مع العالم المجاهد الشّيخ سعيد بيران البالوي النّقشبندي الذي اختار الخروج على السلطة وحمل السّلاح دفاعا على الخلافة، بينما اختار النّورسي معركة التوعية وإعادة البناء.

في 1926 بدأت محنة النّورسي، فكمال أتاتورك لا يلاحق حملة السّلاح بقدر ما يلاحق العلماء الذين يخشى من علمهم، هناك وبين المنافي والسّجون وطوال ربع قرن، ظهر سعيد الثاني وغاب سعيد الأوّل، بدأ في كتابة رسائل النّور التي انتهى فيها إلى 130 رسالة، في تلك المرحلة حوكم النّورسي 6 مرّات رغم أنّه ابتعد عن السياسة واشتغل على جبهة القرآن والإيمان والعقيدة. ولم تطبع رسائله "130" إلّا بعد حين!

لقد كانت الأقدار تنسج الأحداث بحكمة بالغة، بل ببراعة مذهلة، فكتابات النّورسي وغيره من العلماء التي كانت مدفونة أو مخبّأة أو مبعدة عن الأعين شهدت انتعاشة خلال العشريّة المزهرة المزدهرة، الكثير من الكتب طبعت والعديد من المخطوطات أخرجت من رفوفها ومن مطاميرها ونشطت حركة الطباعة بشكل "جنوني" كأنّها تسابق الزّمن أو تخشى من انقضاء الوقت المتاح!!! وفعلا! فعلا.. لقد قيّض الله الشّهيد عدنان مندريس الذي حكم من 1950 إلى 1960 ليمنح للعلماء مساحة لإعادة البعث.. أنهى النّورسي كتاباته ونشرها ثمّ رحل في الخامس والعشرين من رمضان سنة 1379 هـ الموافق 23 مارس 1960م، حين رحل العالم المصلح المجدّد بديع الزّمان النّورسي وانتشرت كتبه في العالم العربي والإسلامي، لاحت وكأنّ مهمّة عدنان انتهت! انقلبوا عليه سنة 1960 وأعدموه العام 1961!!! إنّها الأقدار حين تنسج ببراعة ودقّة وإتقان.. يا الله ! ما أروعه من مشهد، عالم يكتب الدرّر والحاكم يغطّي عليه ويستعجله، فينتهي العالم من مهمّته مع انتهاء مهمّة الحاكم.. مات العالم فاستشهد الحاكم.



رحم الله العالم المجدّد الذي من فرط إلمامه بمختلف العلوم أطلقوا عليه كنية بديع الزّمان.. و أرسل الله سحائب الرّحمات على الشّهيد البطل عدنان مندريس الذي نال شهادة بإذن الله تشبه شهادة سيّده ومعلمه خبيب بن عديّ.